كتب مالك عاصي
“آه، لامبورغيني، أجل أجل….نعم، الرجل الذي يصنع الجرارات الزراعية في احدى ضواحي مودينا، أليس كذلك؟”
هذا ما كان يجيبه أي شخص عندما تسأله عن لامبورغيني في المنطقة ذلك الحين. وهذا أيضا ما كان يدفع انزو فيراري الى الاستشاطة غضبا من تذكيره أن صانع الجرارات الزراعية دخل في دائرة صانعي السيارات السوبر رياضية النفيسة!
بل أكثر من ذلك، فان صانع الجرارات الزراعية كان يكشف للعلن عيوبا كثيرة في السيارات الحمراء التي كان يشتريها من فيراري. لا بل أصبح اسم عائلة لامبورغيني غصة مريرة في حلق الكومينداتوري في أواخر الستينيات عندما قرر لامبورغيني صانع الجرارات الزراعية الدخول بمعترك صناعة هذا النوع من السيارات النادرة.
فروشيو لامبورغيني، ابن المزارع الميسور من منطقة اميلي، والذي كان يعمل تحت مظلة أعمال والده الزراعية، كان يعشق عالم الميكانيك.
لذا فقد كان ينجذب الى الآلات الزراعية أكثر من التربة نفسها وما تعطيه من زرع. مما دفعه لأكمال دراسته والتخصص بالعلوم التقنية لتوصله الى نيل دبلوم في الهندسة الميكانيكية ابان دخول ايطاليا في بركان الأزمات الأوروبية التي ولدت الحرب العالمية الثانية. فاستدعي للخدمة العسكرية وتحديدا فرز في السلاح الجوي العسكري.
ثم وقع في الأسر الانكليزي. وفي الاعتقال الانكليزي عين في قسم الصيانة الميكانيكية، تحديدا في تصليح السيارات العسكرية و الخاصة بالشخصيات الرفيعة. وهكذا تعرف على كافة خبايا القطع الميكانيكية الانكليزية التي كانت تجهز سيارات مثل موريس و أوستن.
وعند نهاية الحرب، فتح كاراج بسيط لتصليح السيارات في منطقة سنتو. وبسبب ركود ما بعد الحرب الاقتصادي الكبير وقلة الأشغال، توفر له وقت فراغ كاف لكي يمارس هوايته الميكانيكية التي أوصلته الى تصميم ورسم جذع مرفقي صنعه بعد ذلك من مادة البرونز يتألف من اعمدة كامة مزدوجة لمحرك سيارته الفياة 500 توبولينو.
ثم حول سيارته هذه الى سبايدر، و رفع سعة المحرك الى 750سنتمتر مكعب. وشارك بها في سباق الميل ميليا عام 1948. لكنه انسحب سريعا من هذا الرالي بسبب أعطال في المحرك وخروج عن الطريق في أحد المنعطفات.
هنا قرر فروشيو أن يضع حدا لمشواره كسائق في السباق. ولكن محركه الذي سمي ب”تستا دورو” أي محرك الرأس الذهبي، لقي اهتماما وتقديرا باهرين.
في ذلك الوقت بدأ العمل الزراعي ينشط أكثر في أرض عائلة لامبورغيني، فطلب والد فروشيو منه أن يصنع من بقايا قطع الخردة التي جمعتها أيام الحرب السابقة في منطقتهم جرار زراعي، لكي يساعدهم في حراثة الأرض. فأنجزه فروشيو ببراعة. وهذا الانجاز هو الذي دفعه الى التفكير مليا بالدخول في مضمار التصنيع الميكانيكي وبيعه للسوق المحلي.
عام 1949، أسست شركة لامبورغيني تراتيتشي لصناعة هياكل الجرارات الزراعية. وقد استطاعت هذه الشركة الصغيرة عام 1952 أن تصنع ليس فقط الهياكل فحسب بل أيضا محركاتها.
ولم يكتف فروشيو بتصنيع جرار زراعي كامل وانما قرر الدخول في مضمار تصنيع المروحيات. ولكن ادارة بلاده المعنية التدقيق والاشراف على تصنيع المركبات الجوية لم توافق على اعطائه رخصة لتصنيع المروحيات آنذاك.
وهذا ما دفع فروشيو الى الاستثمار بصناعة أجهزة التدفئة وتكييف الهواء، هذه الصناعة التي كانت تخطو أولى خطواتها في ذلك الحين. وقد برع في هذا الحقل مما جعله يحقق أرباحا عالية جدا و يصطاد ما كان يسمى بجائزة الزئبق الذهبي في عالم هذه الصناعة.
وهكذا بعمر 45سنة، أصبح فروشيو لامبورغيني رجل أعمال صناعية ذو ثروة مالية ضخمة جدا وشهرة كبيرة. لقد ارتبط اسمه جليا بنجاح مواد التدفئة والمكيفات التي كان يصنعها والتي درت عليه أموالا طائلة، وكذلك بالجرارات الزراعية التي كان يصنعها والتي اشتهرت بجودة انتاجها وقوة تحملها.
ومن الطبيعي لهذا المهندس والصانع والمولع بأعمال الميكانيك أن يكون مولعا أيضا بالعربات الميكانيكية النادرة. لذا فكان لامبورغيني يملك العديد من السيارات النادرة ذات الهندسة الميكانيكية النبيلة جدا ومنها أوسكا ولانسيا ومازيراتي وجاغوار وطبعا فيراري السيارة النفيسة جدا.
ومع ذلك، فلم تكن السيارة الحمراء على مستوى اشباع رغبات هذا الرجل المولع بعلم الميكانيك. بدأ لامبورغيني يشتكي من مشاكل في صحن القابض الفاصل (الدبرياج) وضعف في نبض جهاز التعليق اضافة الى نقص في مرونة التشغيل.
وقد وصلت هذه الانتقادات السائرة الى مسمع الكومنداتوري الذي كان يعرف بصرامة تفكيره وعدم تقبل الملاحظات والانتقادات ولو كانت بناءة….واستشاط غضبا كما قلنا في بادئ القصة عندما استلم شكوى خطية من فروشيو، فكان جواب الكومنداتوري حازما ومتعال جدا : “أنت تعرف قيادة الجرارات، ولكن لن تستطع بحياتك أن تعرف كيف تقود سيارة فيراري”!
وقد أثر هذا الرد بشكل عميق في نفس فروشيو، فقرر أن يصنع سيارة الجي تي التي تتناغم مع قلبه وتشبيع جموحه الميكانيكي، على أن تتوسط مقدمة هذه السيارة علامة الثور الجامح… رمزه المفضل!
فروشيو يضرب هنا بقوة عارمة. فيشيد مصنع على مساحة أرض توازي تسعين ألف مترا مربعا في سانت آغاتا بولونييزي، ليس بعيدا جدا عن مارانيللو معقل الكافاليري رمز السيارة الحمراء، على الجانب الآخر من نهر الفيا اميليا.
وقد عرف كيف يخطف العقول الميكانيكية الفذة من فيراري، أمثال الشاب جيان باولو دالارا الذي عينه رئيس المهندسين وباولو ستانزاني و جيوتو بيزاريني….هؤلاء العظام الأفذاذ الذين صمموا وأتموا مشروع تصنيع رائعة الروعات فيراري 250 جي تي أو.
وهنا كان في جعبة بيزاريني عند انتقاله من فيراري الى لامبورغيني تصميم لمحرك من اثني عشر أسطوانة بشكل٧ سعة 1500سنتمتر مكعب اف واحد. وحده محرك من اثني عشر أسطوانة بشكل٧ كان يفي بالغرض لمنافسة الفيراري.
فسيارات الكومنداتوري كانت الوحيدة بذلك الوقت المجهزة ب V12 وكان الملف التصميمي في جعبة بيزاريني يتناول محركا يتفوق على نظيره تحت غطاء الفيراري نتيجة تجهيزه بعمودي كامة في الرأس لكل صف من الأسطوانات بدل عمود كامة واحد لمحرك الفيراري وارتفاع شوطه كان الأقصر بين محركات كافة السيارات الرياضية في ذلك الوقت وليس الفيراري فحسب، وجذعه المرفقي يحتوي على سبع موازنات مع كارتر زيت للتبريد جاف.
اعتمد لهذا المحرك سعة 3،5ليتر ثلاث مفحمات بوضعية أفقية من الصانع ويبر لتلقين الوقود، وقد طور على أيدي دالارا بعد أن صمم على يدي بيزاريني. والجدير بالذكر هنا أن تطويره التصنيعي على يدي دالارا قد عزز في معمل سكب الحديد المعروف ب “آ.تي.اس” هذا المعمل الذي شيده كارلو تشيتي، رجل آخر من رجال انزو القدامى الذين انفصلوا عنه بسبب دكتاتوريته الادارية! لقد ولد هذا المحرك الجوهرة في أول دورانه وأولى مراحل تصنيعه 360حصان عند 8000د.د.
جهز هذا المحرك المعدني (وليس من الفولاذ ) بعلبة تروس ماركة “زد.اف” لنقل الحركة. أما جهاز التعليق فقد أخذ من تقنية السباق مع أربع عجلات مستقلة وأذرع متقابلة متضادة. أما دراسة قفص الهيكل فقد كان من اختصاص فرانكو سكاليوني، الذي صمم هيكل الألفا جولييتا أس أس والألفا 33 سترادال. وقد أصبحت أول نسخة نموذجية لسيارة أحلام فروشيو لامبورغيني ذات اللون الأزرق المعدني جاهزة للعرض خلال مدة 6أشهر.
وهكذا بدأت المغامرة. في معرض تورينو عام 1963، خطفت اللامبورغيني 350 جي تي في، في نسختها النموذجية القلوب قبل الأضواء!
وبعد جس نبض كافة الآراء والملاحظات عن هذه النموذجية في المعرض، انكب المعنيون لدى لامبورغيني لتعديل وتحسين ما يرونه مناسبا لتدشين النسخة السياحية الأولى.
وهنا بدأ عمل السائق النيوزيلندي المتمرس جدا بوب واللاس تجاربه على النسخة الأولى لتنقيحها. فأعمدة الكامة أصبحت رؤوسها أقل حدة كما استبدل الكارتير الجاف بآخر مليْ بالزيت لتأمين تشغيل أفضل لخط المفحمات الأفقي.
وقد خفضت قوة المحرك ل280حصان، ما يوازي طاقة مذهلة من 81حصان لكل ليتر سعة. أما خطوط و وزن الهيكل فقد سلم تنقيحه للمصمم التقني المشهور “تورينغ” والذي احترم بشغف وحافظ على لمسات سكاليوني، ولكنه قد محى من تصميمه الأثقال الفنية الزائدة بعض الشيء، وعزز أكثر التجانس في تدوير الزوايا لاعطاء طيف السوبر الرياضية الأولى للامبورغيني قيمة وسحر لا مثيل لهما.
وقد ألغى فكرة ماسحة الزجاج الأحادية. كما استبدل المصابيح الأمامية القلابة بأخرى من تصميم كيبييه، لتعزيز شخصيتها أكثر. وهكذا كان من الطبيعي أن يتبنى “تورينغ” في عملية التنقيح للهيكل نظام ال”سوبر ليجيرا” (أي صفائح معدنية قائمة على قاعدة أساس حديدية).
أما الشاسي فقد تألف من جسور فارغة مربعة مع قاعدة عجلات بطول مترين وخمس وخمسون بدل خمس وأربعون في النموذجية، لتأمين مكان لراكب ثالث في الخلف بوضعية عرضية.وهكذا بعد أن كانت النموذجية جي تي في تتألف مقصورتها من مقعدين، أصبحت السياحية جي تي عبارة عن 2+1.
هنا نستطيع أن نؤكد ان اول سيارة سياحية تحمل رمز الثور الذهبي قد دشنت في آذارعام 1964 في معرض جنيف. وكانت سرعتها القصوى تبلغ 240كلم/س. مع 280حصان تحت غطاء محركها.
وحسدتها منافساتها مثل مازيراتي 3500 جي تي آي ذات الست أسطوانات و235حصان ومحور عجلات ثابت، أو فيراري 250 جي تي لوسو مع سعة محركها ال٧12 المحدودة و أحصنتها ال250…
اضافة الى محورها ذو الشفرات! نعم، لقد أراد المهندس الفذ لامبورغيني أن تكون اولى سياراته السوبر رياضية حديثة جدا ومميزة في تصميمها الميكانيكي وانسيابيتها الخلابة وشخصيتها المنفردة. حيث ان مقصورتها تبهر فعلا بنسبة المساحات الزجاجية التي تدخل الكثير من الانارة الطبيعية، وتبهر أيضا بكسائها بالجلد الخالص مرورا بلوحة قيادتها الساحرة بعداداتها.
وما يميز العملانية في قيادتها هو عزم محركها الذي يؤمن لها مرونة عالية في التشغيل على رغم وزنها العالي 1200كلغ ونسب علبة التروس الطويلة بعض الشيء. ان ال 350 جي تي كانت فعلا الأفضل في فئتها ابان اطلاقها.
واذا ما استثنينا منها النسختين موديل السبايدر من انتاج تورينغ والتين لم تدخلا الانتاج التجاري، فقد حسنتها لامبورغيني مع السنين لتصبح 400 جي تي 2+2. فقد رفعت سعة المحرك فيها الى 3،9ليتر.وقوة حصانية تلامس ال320.
وقد جهزت هذه السيارة بعلبة تروس وترس تفاضلي من انتاج لامبورغيني. وقد عدل السقف عند خلفه لتأمين استيعاب المقصورة لراكبين في الخلف.ويمكن تمييز ال400 عن ال350 بمصابيح الأولى الدائرية بدل ألأخيرة البيضاوية.
انتج من ال350 و400 جي تي أولى سيارات لامبورغيني ما يزيد عن 400 نسخة بعض الشيء. لتخلي مكانها لبديلتها ايسليرو في آذار 1968 . علما أن في عام 1966 عرضت النسخة الأولى النموذجية من ميورا.
وهكذا في أقل من عامين، استطاع فروتشيو لامبورغيني أن يحقق حلمه بصناعة أول سيارة سوبر رياضية تحمل اسمه وتناهز لا بل تتفوق على مثيلات عصرها وخاصة فيراري ليبرهن له أنه يستطيع أن يصمم السيارة الرياضية المثال التي لم يلقاها في سيارات الكومنداتوري الحمراء.
وفي أواخر عام 1969، 6 سنوات منذ بداية المغامرة، أصبحت أوتوموبيلي لامبورغيني شركة رائدة لها وقعها وثقلها في عالم صناعة السيارات النفيسة والرياضية والنادرة. وفي هذا العام بالذات خرجت من خط الانتاج أولى نسخ ال 500 اي ميورا، بوقت كان طراز اسبادا مستمراً في تسويقه بنجاح باهر.
ولكن أزمة البترول عام 1973 أثرت كثيرا على ازدهار انتاج لامبورغيني، اضافة الى بعض الأزمات الأخرى الداخلية في ايطاليا من ضرائب واضرابات عمالية.
وهنا قرر فروتشيو بيع 51 بالمئة من حصة الشركة لجورج هنري روسيتي، صانع الكاروسري السويسري المشهور. وبعد سنة واحدة تخلى عن ال41 بالمئة المتبقية من شركته الى رونيه ليمر أحد أصدقاء روسيتي وقرر العودة للاهتمام بأراضيه الشاسعة المعطاء بمحصولها لانتاج النبيذ!
لكن بغياب وجود دماغ فروتشيو الفذ لادارة أوتوموبيلي لامبورغيني، تخبطت الشركة بادارة مالكيها الجديدين بمشاكل كبيرة، من اختلافات عميقة بطرق الادارة بين مالكيها ومسؤوليها، الى الخيارات الخاطئة جدا بحلول تقنية غير مناسبة جعلت جيوب الشركة فارغة من الأرصدة المالية.
و اصبح هذا الصانع العريق غير قادر تسليم سياراته لطلبات الزبائن بالأوقات المحددة. هنا كان دور الميلياردير الكندي والتر وولف، مالك احدى فرق الفورملا واحد، في طرحه رقما معينا من المال لشراء لامبورغيني.
لكن روسيتي كان عنيدا جدا بتمسكه بالشركة. لذا كان الحل الوحيد لروسيتي أنه طلب من الحكومة الايطالية المساعدة المالية. وفي الأول من آب 1978 أصبحت الشركة تحت الادارة والاشراف الرسميين لسلطة الحكومة الايطالية.
وقبل صيف 1980، وقع عقد استثماري بين لامبورغيني و المجموعة الفرنسية ميمران. فشيد الأخوة ميمران وهما يعملان في صفقات انتاج التغذية الزراعية في الجنوب الغربي، شركة نيوفو اوتوموبيلي فروتشيو لامبورغيني في كانون الثاني 1981.
وبعد سنين من الأزمات والافلاس بسبب غياب ادارة وعزم فروتشيو، عادت الشركة مع الأخوين ميمران الى الازدهار والتطور. وظهرت الشرسة “كونتاش”. وخلال 6 سنوات كان انتاج كونتاش مستمراً بالارتفاع، وخاصة في السوق الأميركية.
في الحقيقة، ان السوق الأميركية هي التي حددت المستقبل الباهر للشركة، بعد أن قرر لي ياكوكا أن يشتري لامبورغيني بسعر خيالي جدا ويضمها الى مجموعته في 23 نيسان 1987.
وابان تخبط مجموعة كرايزلر الأميركية بأزماتها المالية ، بيعت لامبورغيني بعد ذلك الى مجموعة الاستثمارات الماليزية مايكوم سيتدكو والى المجموعة الاندونيسية “في” باور كوربوريشنفي 1994. ومن ثم بيعت عام 1998 الى مجموعة فاغ غروب الألمانية التي عينت فرع أودي لادارة الثور الذهبي الايطالي.