إنجازٌ كبير يُسجَّل للُبنان وللعرب أيضاً في ميادين رياضة السيارات، فقد فازَ السائق اللبناني كريستوفر فغالي بلقب فئة “مايكرو” في النُسخة الثانية من السباق النهائي من كأس تحدِّي روتاكس ماكس الدولي، الذي أُقيمَ على حلبة الغرب للكارتينغ في بورتيماو بالبُرتُغال، بين يومي الثُلاثاء والأحد المُوافق 8 إلى 13 كانون الأول (ديسمبر)، مُتغلِّبًا على الكثير من أقرانِهِ القادِمين من أوروبا والمنطقة العربي.
تُعتبر فئة “مايكرو” أولى درَجات التسابق في سباقات روتاكس للكارتينغ، وهي مُخصصة للسائقين الصغار الذين تتراوح أعمارهم ما بين 7 و 11 سنة، يليها صعودًا فئات “ميني” و “جونيور” وُصولًا لفئة “سينيور” للكبار، في حين يُعتبر تحدِّي روتاكس ماكس الدولي أحد بُطولات الكارتينغ الدولية.
كان المُقرَّر إقامة هذا السباق على حلبة لومان للكارتينغ الدولية الشهيرة في فِرنسا خلال الفترة ما بين 28 تموز (يوليو) إلى الأول من آب (أغسطس)، لكن تم تأجيل هذا الموعد بسبب الظروف الاستثنائية الناجِمة عن جائحة “كوفيد 19” إلى موعده الجديد في شهر كانون الثاني في البُرتُغال، وذلك لإتاحةِ المجال لأكبر عددٍ من المُشاركين من أنحاء العالم للمُشاركة في السباق.
واختيرت حلبة الغرب البُرتُغالية جنوبي أوروبا نظرًا للطقس المُناسب خلال الشتاء الأوروبي، ولكونها حديثة الطراز مع تجهيزات مُمتازة إذ تُعتبر من أكبر حلبات الكارتينغ الأوروبية، وتأسست في العام 2010، واستُخدم مسار بطول 1.6 كيلومتر في هذه الجولة.
علمًا بأن حلبة الكارتينغ هذه تُشكِّل جُزءًا من مشروع مُجمَّع الغرب لرياضة السيارات في المنطقة، الذي يضم أيضاً حلبة سباق عالمية من الدرجة الأولى استضافت في شهر تَشرين أول (أكتوبر) الماضي سباق جائزة البُرتُغال الكُبرى للفورمولا واحد. شارك في النهائي العالمي في مُختلف الفئات 229 سائقًا من 34 بلدًا.
جديرٌ بالذكر أنه لم يكُن من المُقرَّر أن يُشاركَ كريستوفر فغالي في هذه الجولة أساسًا، إذ كان هدفه أساسًا التحضير للمُشاركة في نهائيات روتاكس الكبرى 2020 في البحرين، التي كان من المقرر للمرة الأولى في المنطقة، لكن تداعيات جائحة “كوفيد 19” اضطرت المُنظمِّين لتغيير مكان إقامته إلى البُرتُغال على حلبة الغرب في بورتيماو في الفترة ما بين 23 و 30 كانون الثاني (يناير) 2021.
هذه المُعطيات دفَعت عبدو فغالي، بطل الراليات اللبناني الشهير ووالد كريستوفر، للذهاب إلى السباق النهائي من كأس تحدِّي روتاكس ماكس، من أجل إتاحة المجال لابنه للتعرُّف جيدًا على الحلبة والتعلُّم عليها واكتساب الخبرة خاصةً من السائقين الأوربيين، كما شكَّلَت فُرصة لتعلُّم التسابق على المسارات المُبتلة،حيث لم يسبق لكريستوفر المُشاركة في سباقات رسمية تحت الأمطار أو على مسارات مُبتلة، نظرًا إلى أن مُواصفات الحلبات اللبنانية ونوعية الأسفلت الزلقة لا تسمح بإقامة سباقات تحت الأمطار، وكل ما في رصيده بضعة تدريبات خاصة من والده للتسابق في هذه الظروف.
عودةً للتحدي، شارَكَ كريستوفر في فئة “مايكرو”، والتي ضمَّت 25 سائقًا من 15 بلدًا أوروبيا ولُبنان يُعتبرون من أفضل سائقي الكارتينغ في فئتهم، وتألَّفَ السباق من عددٍ من الجولات، كانت البداية مع التجارب الحرة غير الرسمية يومي الثُلاثاء 9 والأربعاء 9 صباحًا، مع 6 فترات، كل واحدة مُدَّتها 8 دقائق. تبِعها التجارب الحرة الرسمية يوم الأربعاء بعد الظهر والخميس صباحًا. مُقسَّمة على 4 فترات كل واحدة 8 دقائق. تبِعها ثلاث فترات سباقات قصيرة للتحمية والسباقين قبل النهائي والنهائي.
احتل كريستوفر فغالي المركز العاشر في أول جولة من التجارب الحرَّة، كانت تلك أسوأ مركزٍ له خلال الجولة، إذ سُرعان ما تأقلَم مع الحلبة والظروف جيدًا وتواجَد دائمًا ضمن المركز الثلاثة الأولى في باقي مراحل الجولة، وصعد للقمة في فترة التجارب الحرة العاشرة، وسجَّل فغالي توقيت 1:23:189 دقيقة خلال التجارب التأهيلية الثالثة يوم السبت، واستمرت الأوقات بالتحسُّن بفضل تحسُّن حالة المسار والتأقلم عليها، لا بل أظهر براعةً على المسارات المُبتلة بمياه الأمطار حلال إحدى الفترات وأنهاها أولًا، بفارق تجاوزَ 10 ثواني عن أقرب مُلاحقيه، حيث إن تعودُّه على المسارات الزلقة في لبنان أفادُه في السيطرة على السيارة والتحكم بها حتى عند الانزلاق الجانبي.
أخذَت المُنافسات مُنحنى تصاعديًا وجديًّا إلى أن وصلت ذروتها في التجارب التأهيلية، حيث احتل المركز الأول، وانطلق أولًا في سباقات التحمية والسباقين قبل النهائي والنهائي، كان المسار جافًا في السباق قبل النهائي، رغم أن السماء كانت مُلَّبدَةً بالغُيوم، وتألَّفَ من ثمانِ لفّات، انطلَقَ كريستوفر من المركز الأول ونجحَ مُنذ اللفة الأولى ببناءِ فارقٍ مُريحٍ عن مُطاردِه المُباشر السائق البولندي يوليوش أوسييبا، لكن الأخير وقعَ تحت ضغط الهولندي ماكس سادروسكي في المركز الثالث، ومُطاردهم البريطاني جايكوب أشكروفت، تقدَّم البريطاني إلى المركز الثالث خلف خلف فغالي وسادروسكي، وتراجع أوسييبا عدة مراكز، في حين تقدَّم السائق الهولندي ميز هوبِن للمركز الرابع.
في المُقدِّمة، حافظ كريستوفر على هدوء أعصابه وواصل بناء فارقٍ زمني عن مُلاحقيه، ليجتازَ خطّ النهاية أولًا بفارق أكثر من ثلاث ثواني عن سادروسكي الذي حافظَ على مركزه رغم ملاحقة أشكروفت الشديدة له. سجَّلَ كريستوفر فغالي أفضل توقيت له خلال هذا السباق 1:11.722 دقيقة.
أُقيم السباق النهائي ظهيرةَ يوم الأحد، بأجواءٍ غائمةٍ، لكن بقِيَ المسار جافًا خلال السباق، وتألَّف من 11 لفة، انطلَق فغالي أولًا وتصدَّر السباق أمام البريطاني جايكوب آشكروفت والهولنديان ميز هوبِن ثالثًا وماكس سادورسكي المركز الرابع.
ابتعدَ رُباعي الصدارة في الأمام بفارق 1.5 ثانية عن البولندي فرانسيشِك بيلوسياك وبقية المُتسابقين. وسَّع صدارتُه إلى سبعةِ أعشار من الثانية مُستفيدًا من انشغال أشكروفت بصدِّ هجومِ هوبِن، لكن ردَّ أشكروفت بتسجيل أسرع الأوقات في اللفة وبالضغط على فغالي، إلا أن هوبِن نجحَ بالتقدُّم للمركز الثاني، واستغَل أصحاب المراكز الثاني والثالث والرابع التيّار الهوائي الناتِج عن سيارة فغالي للاقتراب منه وتجاوزه خلال اللفة الخامسة على المقطع المُستقيم، كان هوبِن ثانيًا وأشكروفت ثالثًا، قبل أن يتراجع للمركز الرابع في اللفة التالية.
ردَّ فغالي بقوة واستعاد المركز الأول في اللفة الثامنة، وترك البقية مشغولين في المُنافسة على منصتي التتويج، بدأ فغالي اللفة قبل الأخيرة بفارق ستة أعشار من الثانية تقريبًا في الأمام، واشتدَت ضراوة المُنافسة بين أشكروفت وسادروسكي، وفازَ فغالي بالسباق حيث فرضَ هيمنته منذ البداية، وأحرز الفوز بفارق 1.013 ثانية عن أشكروفت وسادروسكي وهوبن، واحتل البولندي يوليوش أوسييبا المركز الخامس. كما سجَّل فغالي أفضل لفة بتوقيت 1:06.744 دقيقة.
لا يُعتبر هذا الفوز عاديًا بالنسبة لكريستوفر، فهو أكبر لقب يُحرزه في مسيرته الفتِيَة، لكن لا عجَبَ في ذلك، فهو من الجيل الثالث من عائلةٍ امتهنَت رياضة السيارات واحترفتها، جدُّه إسكندر فغالي كان من أهم المُشتغلين على تحضير سيارات الرالي في لبنان، ووالده عبدو وعمُّه روجيه من نُجوم سباقات السيارات والراليات في المنطقة العربية، كما يُدير عمَّهُ مُؤسسة “موتورتيون” التي تُشرف على تحضير السيارات الرياضية وتجهيزها للمُنافسات؛ سباقات الحلبات وتسلُّق الهضاب والراليات والانجراف وغيرها.
شارك كريستوفر فغالي في هذا السباق مُستخدمًا سيارة كارتيغ من تحضير فريق دان هولاند للسباقات، وتألَّفَت من هيكل “كاي آر” وإطارات “موجو” و مُحرِّك “روتاكس”.
التعلُّم السريع ومواجهة الظروف الصعبة:
كان الطقس المُمطر مُفاجئًا لكريستوفر فغالي، واستخدم فريقه آلة تصوير خلال تدريباته من أجل مُراجعة أدائِهِ ومُعالجة أية نقاط الضعف، وتحديد خطوط التسابق ونقاط الكبح وطريقة دخول المُنعطفات والخُروج منها، واستفاد من خبرة والده عبدو فغالي، بطل الراليات المعروف في المنطقة العربية وسائق الكارتينغ الخبير، في تحسين أدائه والأخذ بتوجيهاته، فضلًا عن إنه استفاد بعُمق من تجربة الاحتكاك بسائقين أوروبيين لديهم خبرة أكبر على الحلبات الأوروبية، وتحديدًا البريطانيين والهولنديين.
سُرعانَ ما تعلَّم كريستوفر دُروسه، وقدَّم أداءً غير مسبوقًا في باقي مراحل الجولة، حيث فرض هيمنته على مُعظم مراحلها، في إنجازٌ غير معهود في هذه البُطولة حصل على إشادةٍ واسعةٍ من المعنيين بها، وأثار إعجاب الجميع وفاجئهم، كما لفتَ أداؤه أنظار العديد من الفرق الأوروبية المُحترفة باحتمالية ضمِّه إلى صفوفها في الجولات المُقبلة.
يُثبتُ تفوُّق كريستوفر أن المواهب العربية واللبنانية تلمَعُ في المحافِل الدولية ما إن تُتاح لها الفُرصة لذلك، كما إن إصرار والده وفريقه على المُشاركة مهما كلَّفَ الأمر ورغم قلة التمويل والصعوبات الاقتصادية التي يُواجهها لُبنان بسبب “كوفيد 19” وحادثة انفجار مرفأ بيروت المُؤسفة قد ضاعَفت من قيمة هذا الإنجاز الكبير، ومنحت السائق الواعد دفعةً معنويةً كبيرةً من أجل التحدي المُقبل في النهائيات الكبرى لروتاكس ماكس في شهر كانون الثاني (يناير) المُقبل.